فكرة أصبحت «مكتبة»

...وذكرى أضحت كتاباً

من مقدمة الكتاب «في بيروت... وَمَضت فِكرة»


نُصدر هذا الكتاب تخليداً لآثار روّاد النهضة، وإحياءً لذكرى رُسُلِ العِلم، ووفاءً للنهضة الفكرية التي قادها اللبنانيّون الطلائع، ورفعوا أنوارها الساطعة في سماء المشرق العربي، مُبَيِّنينَ فيه أهمّية الدور الذي قامت به دار صادر في نشر المعرفة والثقافة، وإحياء الآداب والعلوم، بعد مرور مائة وخمسين سنة على تأسيسها.

فـ «الفِكرةُ» التي ومَضَت في مخيّلة إبراهيم صادر المؤسّس، أطلقت الرحلةَ الطويلة في مجال الثقافة والنشر. وكان لانتقالها من الخيال إلى الواقع، الفضل المبكر في إرساءِ المدماك الأساس لهذا الصرح الثقافي العريق، ما جعل إبراهيم صادر رائداً -في لبنان والعالم العربي- من الروّاد الذين تمتّعوا بالجدّية والجُرأة والبصيرة واقتحموا ميدان الطباعة والنشر، في ذلك الزمن الصعب.

إبراهيم صادر، المؤسس


يحملُ هذا الكتاب، تحيّة إجلالٍ وعرفان للراحلين المؤسّسين، الذين كانوا يقيسون أعمارهم بأيامِ العطاء: إبراهيم صادر، وولده سليم ، وحفيده (والدنا) أنطون.

"

كان الحافز على هذا العمل، والدافع إلى التعلّق به والمثابرةِ عليه، حُبُّ المهنة، لكونها توأمَ: «رسالة وأمانة». هذا هو المفهوم الذي أورثَهُ إبراهيم صادر لبنيه من بَعده، فشرعوا يعملون في إعداد الأبنية اللاّزمة، وتوفير المعدّات الضروريّة، في ما يُشبه تحدّي الذات، إزاءَ سوقٍ محلّيةٍ ضيّقة، وسوقٍ إقليميّة مضطربة، وفي خِضَمّ عالٍَ متهافت ينطوي على تحدّيات جمّة، ومشقّات متنوّعة، وتجتاحه «تكنولوجيا» العصر، ويدفَعُ بهِ تَطَوّرٌ متواصل، وابتكارٌ متسارع، واستباقٌ عجيب.


تلَقّفَ أولاد إبراهيم صادر الأمانة، وشَدُّوا على الرسالة، وذهبوا يعملونَ بوحيها ويسيرونَ بهديها، واتّصل هذا المسار بأولادهم وأحفادهم، فإذا بالدار عَبر العقود الخمسَة عشَ الماضية في تجدُّدٍ ناهض وتقدُّمٍ دائم، تضع أمامها كل ما يزيدُ بهاءَها ويضاعف بقاءَها من وسائلَ حديثة، ومعدّات متطوّرة في عالَ الطباعة والنشر والتسويق، مع ما يتطلّبه ذلك من استثمارٍ للموارد البشريّة والماليّة والماديّة. قامَ المؤتَنونَ على الرسالة بكل ذلك، من أجل ترسيخ الموقع، والإبقاء على المكانة، والثبات على التنوّع، والحفاظ على جَودَة الإنتاج بنوعٍ خاص.

وهكذا أضحَت منشوراتنا التراثية والأدبيّة وسواها، لمؤلّفين لبنانيّين وعرب، مقيمينَ ومُغتَربين، في مستوى الرسالة والدَور، حاضرةً ومطلوبة في جميع أرجاءِ العالم العربي، ماثِلةً في معارض الكتب العربية، تزهو بحلّةٍ إخراجيّةٍ متميّزة، ومواضيعَ شيّقةٍ قَيّمة.

تميّزت الدار بالسمعة الطيّبة والإسم الحَسَن، وهو أوّل شرط أخلاقي ضروري للنجاح في شتّى مجالات الحياة، وفي مجال الأعمال بنوعٍ خاص، في حين كان المردود المعنوي عندنا ولم يزل، هو الغاية الأسمى والهدف الأساس، أمّا المردود المادي، فما هو إلاّ وسيلة للاستمرار.


نعم، أردنا أن يحكي هذا الكتاب حكايةَ المثابرةِ والصمود، والتطوّر والنَّماء، وهي حكاية أربعةِ أجيالٍ من أُسرةِ صادر، وعملهم الموصول، وحرصهم الشديد على هذا الإرث النفيس، وإغنائه بتراكم الإنجازات، على امتدادِ قرنٍ ونصف قرن في خدمة الحياة الثقافية، وإصرارهم على جَبْهِ التحدّيات مهما عظُمت.

يحملُ هذا الكتاب، تحيّة إجلالٍ وعرفان للراحلين المؤسّسين، الذين كانوا يقيسون أعمارهم بأيامِ العطاء: إبراهيم صادر، وولده سليم، وحفيده (والدنا) أنطون.

ولقد توخّينا منه الجمع بين العام والخاص، فاستَعنّا ببعض الأصدقاء الكُتّاب، من منارات اللُّغة والعِلم والأدب، فشاركونا مشكورين، في صياغة مادة مفيدةٍ شيِّقة، تناوَلَت الخصائص الثقافية لمختلف المراحل التي تخلّلها تاريخ «دار صادر»، وأَلمَحَت إلى أهمّ إسهامات الدار في النهضة الفكرية العربية، وفي نتاج التأليف العربي، طوال السنوات المائة والخمسين المنصرمة، فبات الكتاب يضمّ بينَ دفّتيه سيرة آل صادر المهنية ولمحة عامة عن الحياة الثقافية في لبنان والعالَ العربي إبّانَ الحقبة الماضية.


إننا، أُسرةً ومؤسّسةً، مدينون لجميع الوجوه القلمية المرموقة بالشكر الوفير، على مقالاتهم المفيدة ودراساتهم القيّمة التي أغنت هذا الكتاب. كما أننا نستحضر، في هذا الإصدار الخاص، ذكرى أعزّاء رحلوا من هذه الدنيا وعبروا إلى الشاطئ الآخَر من الحياة، ونرسم كذلك في ذاكرةِ الأجيال الطالعة منجزات مهمّة، في قطاعٍ ما فتىءَ يشهدُ المزيد من التحدّيات. والحقيقة أننا لم نكن ندرك معاناة المؤسّسين الأوّلين، إلاّ بعد دخولنا هذا المعترَك، مع ما في عصرنا اليوم من تسهيلات تقنية ما جَعَلنا نقدّر لهم معاناتهم، ونتعرّف إلى ما كانوا يكابدونه من مشقّات، تختلف بين العصرين شكلاً وتتّفق جَوهراً، وما برح العاملون منّا في هذا القطاع إلى اليوم يعاندون أقدارهم في عصر الحداثة المتخبّط ويُزيلون العوائق ويذلّلون الصِّعاب.

ولا يَسَعُنا، من بَعد، إلاّ أن نتوجّه بتحية تقدير وإكبار إلى جميع شركائنا في هذه المنجَزات، مؤلّفينَ وقرّاء على حَدٍّ سواء. فذخرنا الأغلى هو ثقتهم بنا ومحبّتهم لنا، فَمِنهم استمدّ السَّلَف ويستمدّ الخَلَف القوّةَ والتصميم على تحقيق المزيد من التقدّم والنمو المطّرد.

تفرض علينا هذه الذكرى، بما تنطوي عليه من معانٍ وعبر، التأكيد الوطيد على المبادئ -الثوابت التي أورثنا إيّاها الآباء والأجداد، ويأتي في طليعتها الالتزامُ بالجَدّ، والجِدُّ في العمل، والتحلّ بآداب المهنة، والصدق في المعاملة، والتمتّع بروح الانفتاح على الآخرين، والوقوف على مُنجَزات التطوّر ومواكبة قفزات الحضارة، آملين أن يقدّرَ اللهُ لنا متابعةَ طريق العطاء، وأن يرعانا ويسدّدَ خُطانا في دروب التقدّم ومراقي النجاح، لنبقى أوفياءَ للقيم التي منها نََلْنا وعليها استمرّينا، مُلصينَ للرجال الذين قبَضوا على الشعلة بأيديهم ونقلوها لنا، وواجبٌ علينا أن نجعلها أكثر ما تكون نوراً وتألّقاً قبل أن نسلّمها لأجيالنا القادمة.


مجدّدين شكرنا لكلّ من ساهم في إنجاز هذا الكتاب، ونخصّ بالذكر السيدات والسادة: هالة البزري، وليلى مكارم، وماجدة نمّور، وجورج أبي صالح، وغازي غريّب، وشوقي حماده، تركي بن سهو العتيبي، وعبّودي بو جَوده، وميشال خليل جحا، وإبراهيم شبّوح، ويوسف عسّاف، والأب انطوان ضو وحسين ماجد، وستيفن جنسن، وعصام مصري وجميع الذين وقفوا إلى جانبنا في هذا العمل.


نسأل الله أن يوفّقنا في تطوير أعمال «دار صادر» لتستمرّ في خدمة الثقافة، عبر الكِتاب والكُتَّاب وقرّاء الكُتُب.

من اليمين: إبراهيم، سليم، ونبيل صادر

سليم وإبراهيم ونبيل صادر

دار صادر